باتت السطوة السياسية وسلطتها تشكل تهديداً خطيرًا على الدين فهو بأمس الحاجة إلى تحريره من قبضتها ، اذ اصبح الدين يشكل العامل الرئيس لخدمة السلطة السياسية من حيث المنفعة الاقتصادية واللوجستية ، وتتخذه غطاءً شرعيًا لوجودها، لأن السواد الأعظم من الناس تسيطر عليهم عن طريق توظيف الروايات والسرديات والنصوص المقدسة سياسياً، واستثمارها طائفياً، على الرغم من ان النظم الديمقراطية لا يوجد فيها شيء مقدس، لأن من يريد القداسة عليه انشاء نظام ثيوقراطي وليس ديمقراطي، حيث يقول الفرنسي موريس دوفرجيه ” أن العقيدة السياسية حين تعطى صبغة دينية فإن ذلك يعطيها سلطة أكبر بل مطلقة في بعض الاحيان على حياة المنتسبين اليها”، والهدف هو ليس تطبيق لمناهج الديني الاسلامي المعتدل وانما عبارة عن “روزخونيات” لاستغلال مشاعر الناس واستمالة عواطفهم لتحقيق غايات ومصالح شخصية بواسطة النصوص والسرديات “المقدسة”، وهناك مقولة في علم الكلام تقول “النصوص متناهية والوقائع غير متناهية” إذ لا يمكن بضخامة واقعنا ان تفرض عليه سردية أو رواية أو عادات او تقاليد عن طريق أدوات سياسية، وحتى النص المقدس اليوم ليس لدينا مشكلة بالتنزيل وانما بالتأويل والتفسير!، ولعل الكثير قد اطلع على ما حصل من صراع في القرن السادس عشر في اوربا عندما تدخلت الكنيسة بالسياسة، وكان هناك صراع على السلطة السياسية بين الكاثوليك والبروتستانت، في بعض البلدان، كانت الكنيسة الكاثوليكية تتمتع بسلطة كبيرة، والبروتستانت كانوا يرغبون في الحصول على المزيد من الحرية الدينية والسياسية، وهذا الصراع نتج عنه حرب الثلاثون عام، قضى (اثنا عشر ) مليون أوربي نحبهم، وللمتلقي المقارنة والقياس عندما يسيس الدين!.
يقول علي الوردي في كتاب شخصية الفرد العراقي “الإنسان العراقي أقل الناس تمسكا بالدين، وأكثرهم انغماسا بين المذاهب الدينية، فتراه ملحدا من ناحية وطائفيا من ناحية أخرى “، ويقول ايضاً في كتاب وعَّاظ السلاطين “لقد ضعفت نزعة التدين في أهل العراق وبقيت فيهم الطائفية ، وما هم بمتدينين لكنهم طائفيون في الوقت ذاته ، وهنا موضع العجب”، فعلاً نجد الكثير من هذه النماذج ألسنتهم جوامع وقلوبهم ملاهي، يتحدثون بالدين ولا يطبقونه، ولا يميزون بين اركان الإسلام والإيمان، ولا بر الوالدين، ولا الزكاة، ولا حتى الميراث!!، او كف الاذى عن الناس، يفطرون على بساط عمر ابن الخطاب وعلي ابن ابي طالب صباحاً ويتحدثون بالدين والشعارات، ولكن مساءً يجلسون على طاولة ميكافيللي اي (الغاية تبرر الوسيلة)، اي تحقيق الغاية حتى وان كان بواسطة وسائل غير اخلاقية!!، ونفسه نيقولا ميكاڤيلي في كتابه الأمير يقول “ان الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس”، ويفترض على الاحزاب ذات الأيديولوجية الدينية تسعى للحصول على السلطة لتطبيق منهجها الديني وفق نهج معتدل ولكن الأمر في العراق مختلف ، إذ أن احزاب السلطة تستعمل الدين للسيطرة وترويض عوام الناس، على الرغم من أنَّ الدستور العراقي هو مدني، والمادة (٣) منهُ نصت على “العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب”، بينما المادة (٢/ج) نصت على “لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور”، أمَّا المادة (٣٧/ثانياً) من الدستور نصت على “تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني”، ولا يمكن لك في نظام ديمقراطي أنّ تجبر الشعوب والطوائف على فكر أو سلوك أو سردية أو رواية، وكما يقول شتراوس “الماضي مكان نعود اليه لكن لا نقيم فيه”، نهضم التراث ونفهمه، وان نعيد صياغته بما يلائم طوائفنا وشعوبنا، وهذا ما أشارت إليه المادة (٤١) من الدستور العراقي والتي نصت “العراقيون أحرار في الالتزامات بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم، أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون”، فضلاً عن المادة (٤٢) التي نصت على “لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة”.
امانويل كانط يقول “الديانة من دون وعي أخلاقي تعد عبادة وهمية ومجرد ظاهرة خارجية لا فائدة منها، وفي كتابهِ الموسوم “في التربية” تحدث عن التنوير وقال “أريد أن أحرر الانسان من التبعية السياسية والدينية كي يتمكن من التفكير بنفسه دون العودة إلى وصي يُشرف عليه في كل شيء مستحضراً الشاعر الروماني أوراسيوس (تجاسر وفكر)”، وهناك تعبيران أساسيان في هذه المقالة يعود اليهما كانط ليبين لنا ميزة عصر التنوير منها القصور والرشد وهو ان يكتسب الإنسان عقلاً مستنيراً كي يتخلص من الوصاية التي يمارسها رجال السياسة والدين إذ يسعون دائماً على إبقائه في عقلية القطيع أي عقلية قاصرة يسهل عليهم تدجينه والسيطرة عليه وقد يصل الإنسان إلى سن الرشد ولكن يتصرف في أغلب الأحيان كقاصر، لأن بصراحة لدينا تدين زائف ولعل في رواية (الجريمة والعقاب) لدوستويفسكي، اعترف القاتل راسكولينيكوف بجريمته بقتل المرابية العجوز، ودخل السجن في سيبريا، ولم يتعرض له أحد من السجناء بسبب تلك الجريمة البشعة، إذ اعتبروه رفيقاً، لكنهم هاجموه وكادوا يفتكون به فقط عندما علموا أنه ملحد!!!!، وهذه اشارة واضحة عن التدين الزائف، وعلي ابن ابي طالب عليه السلام يقول “واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا، وبعد الموالاة أحزابا، ما تتعلقون من الاسلام إلا باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون أن تكفئوا الاسلام على وجهه”.
وكما اشار فؤاد زكريا في كتابه (التفكير العلمي) يقول “أول عقبات التفكير العلمي هي دور المؤسسات الدينية والسياسية المتحالفة من اجل إسقاط التنوير بشكل مختلف”، ورجل السياسة بارع في توظيف المسائل الدينية بما ينسجم مع مصالحه ومنافعه الحزبية لأغراض انتخابية،والعزف على وتر الطائفية والمذهبية جزء من التغذية لجمهورهم والبقاء في دائرة الصراع لأغراض سياسية، ولعل إيمانويل كانط في كتابه (محاضرات في التعليم الفلسفي للدين)، اشار إلى ان محاضراته تهدف إلى وضع الدين في إطاره التاريخيّ الصحيح كي لا يتحول إلى تيارات عقائدية وسياسية متشنجة، من شأنها أن تخلق التفرقة والصراعات والحروب من أجل إله لا نعرف عنه إلا النزر اليسير، إذ هو فوق كل تعابيرنا وأقوالنا المحددة، وتحدث كانط عن نتائج تدخل الدين بالسياسة وتسييس الدين نتج عن حروب في القرن السادس عشر بين الكاثوليك والبروتستانت قد خلفت دماراً كبيراً لا في البنى التحتية فحسب وانما في عقول الناس، بسبب الأثر السلبي عندما يوظف الدين سياسياً، وهذا ما يحصل في العالم العربي والآسيوي والأفريقي من صراعات دينية بين المسلمين انفسهم والمسلمين والمسيحيين من أجل الذود عن هذه العقيدة أو تلك، وايضاً ما يحصل اليوم في العراق من صراع مذهبي، هو ليس سوى قراءة ضيقة ومبتورة للكتب الدينية، إذ غالباً ما تطغى عليها المصالح الذاتية والمكتسبات السياسية والاجتماعية، إلى حد أن الدين يصبح أداة سياسية لخلق الخوف والرعب في صفوف الناس وباقي المذاهب والقوميا، لذلك لابد من ان يكون هناك وعي من قبل النخب وقادة الرأي فضلاً عن رجال الدين المعتدلين اتجاه المسائل الماورائية التي تتخطى عقولنا بكثير، فضلاً عن دور رجل الدين المعتدل والذي يمتلك مخزون ثقافي وديني وإلمام كبير دور من اجل التخفيف من حدة التوترات وتقليل الانقسامات، لأن التشبث بقراءة حرفية وأحادية للدين ولأغراض سياسية، يساعد على حدوث فوضى عارمة تفكك مجتمعاتنا اكثر ويكون البروز للهويات الفرعية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية كما هو الحال في العراق اليوم، لذلك اقول كل محاولات تديين السياسة انتهت بتسييس الدين.