في العمق

لماذا تتحول “الميليشيات الموازية” من موالية إلى متمردة؟

بغداد/ وان نيوز
يشهد الإقليم تغيرات جذرية، فما إن تهدأ جبهة حتى تشتعل أخرى. منذ الغزوين الأميركيين لأفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، واللذين جاءا تحت مسمى “الحرب على الإرهاب”، ودشنهما الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، في أعقاب هجمات سبتمبر (أيلول) 2001، والمنطقة تتنقل من صراع إلى آخر. واستتبع ذلك نشوب حرائق طاولت دولاً عربية عدة، هذا مما ضعضع بعض الأنظمة التي عاشت بسلام لفترات طويلة، ومما أدى إلى سقوط رؤساء وزعماء. وخلف ذلك فوضى وتغيرات برز معها الصعود التدرجي لما يسمى الجيوش غير النظامية أو الكلاسيكية أو الموازية، حيث تنتشر أشكالها كافة من ميليشيات وجيوش وحركات وتنظيمات في المنطقة، وجاء صعودها وازدهارها على حساب الجيوش النظامية التقليدية.
“سياسات خاطئة” للولايات المتحدة في المنطقة
يتساءل المؤرخ البريطاني كارتر مالكاسيان الذي عمل مستشاراً للقادة العسكريين الأميركيين في أفغانستان في كتابه “الحرب الأميركية في أفغانستان” (The American War in Afghanistan) إصدار 2021 “كيف يعقل أن تخفق الولايات المتحدة وحلفاؤها في إلحاق الهزيمة بـ(طالبان) على رغم حشدهم زهاء 140 ألف جندي عام 2011 وأحدث أنواع الأسلحة والعتاد في العالم”؟ ويضيف “ما السبب الذي جعل القوى الغربية تمكث طوال تلك المدة ليكلفها ذلك ما يفوق تريليوني دولار وأكثر من 3500 من أرواح جنود الحلفاء، هذا غير أعداد كثيرة أخرى من الجنود الذين أصيبوا إصابات بليغة في قتالهم في تلك الحرب”. وفي السياق عينه، يقول الكاتب والباحث اللبناني وسام سعادة في مقالة له نشرت سبتمبر 2021، إن الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 لم يأخذ بنصيحة الاكتفاء بحل الحرس الجمهوري والتشكيلات العسكرية التابعة مباشرة لحزب البعث، بل آثر “الحاكم المدني للعراق” بول بريمر في 23 مايو (أيار) من ذلك العام حل الجيش النظامي نفسه وتسريح كل عناصره وإلغاء جميع الرتب فيه، هذا في دولة، بل في كيان قائم أساساً منذ تأسيسه على يد بريطانيا على مركزية الجيش النظامي في عملية تكوينه وربط أوصاله ككيان. روج الأميركيون عندما حلوا الجيش العراقي أنهم يعيدون بناء الأمة من جديد في العراق، بما يلزم كسر شكلها القائم وإعادة تركيبه من جديد، فاختاروا سلوك درب إعادة إنشاء الجيش النظامي من الصفر أيضاً. جاءت النتيجة وبعد 11 عاماً وخيمة، وكان أن انهار هذا الجيش بشكل مريع أمام التقدم السريع والدموي لقوات “داعش”. ويتابع سعادة أن “المنطق الذي فرض نفسه آنذاك، يقول إن مواجهة خطر مسلحين متحركين متطرفين غير ميسرة من خلال جيش نظامي، ويلزم بالتالي تشكيل قوة شعبية مسلحة غير نظامية”. وهذا ما حدث مع دعم “قوات الصحوة” السنية في مواجهة “القاعدة”، ثم فتوى “الجهاد الكفائي” للمرجع الشيعي علي السيستاني التي سوغت قيام قوات “الحشد الشعبي” المتعددة الفصائل، والمتفاوتة في درجة قربها، بل وتداخلها مع “الحرس الثوري الإيراني”.

الجيوش الموازية
في شهر سبتمبر من عام 2016 صدرت دراسة عن “مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة” في عدده رقم 79، بعنوان “دوامة الفوضى… انعكاسات الجيوش الموازية على الاستقرار في الشرق الأوسط”. تقول إن الجيوش الوطنية لم تعد هي المحتكر الشرعي الوحيد للقوة العسكرية في بعض دول الإقليم، إذ شهدت السنوات الست الماضية تعاظم تأثير العناصر المسلحة غير النظامية إلى درجة إطلاق الأدبيات عليها “الجيوش الموازية”، كما أن دولاً عدة بالشرق الأوسط شهدت ميلاد أو تزايد تأثير جيوش مصغرة أو قوات مسلحة صغيرة أو جماعات متمردة، تتسلح بأسلحة خفيفة وثقيلة ولها قواعد للتدريب وتتبنى استراتيجيات دفاعية وهجومية في مسارح عمليات مختلفة، وتمزج بين الوسائل التقليدية والحديثة بما يجعلها قوة مناوئة للجيوش النظامية. وتتمثل هذه في بقايا أو كتل رئيسة من الجيوش النظامية والميليشيات والكتائب المناطقية والجماعات الطائفية والأجنحة العسكرية والتشكيلات الشعبية والفيالق الثورية والتنظيمات العشائرية والمنظمات الإرهابية، في ما يشبه مجازاً “جيوش قطاع خاص” بالمنطقة. هذه الجيوش سيطرت على مساحات جغرافية في مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة بدول كبرى، وتمتلك موارد اقتصادية وقدرات تسليحية، ويضاهي تدريبها تدريب الجيوش التقليدية وتعلوها بالكفاءة والإمكانات العسكرية، وتدير علاقات مع دول وفاعلين خارجيين، وتمكنت من خلق نمط “حروب استنزاف صغيرة” في مواقع متعددة على نحو يضمن بقاءها، وهو ما يسهم في استمرار دوامة الفوضى، كمثال “جيش حفتر” و”قوات السراج” في ليبيا، والألوية التابعة لعلي عبدالله صالح وميليشيات الحوثيين في اليمن، و”الجيش الحر” في سوريا، و”حزب الله” في لبنان، و”الحشد الشعبي” في العراق، و”الحرس الثوري” في إيران، وقوات “الدعم السريع” في السودان، والميليشيات التابعة لرياك مشار في مواجهة قوات سلفا كير ميارديت في جنوب السودان، وجماعة “بوكو حرام” في نيجيريا، وحركة “شباب المجاهدين” في الصومال. هذه الجيوش الموازية لم تكن وليدة سنوات ما بعد الحراك الثوري، بل إن بعضها كان صنيعة دول في بعض الأحيان، إذ لجأ الرئيس الليبي السابق معمر القذافي إلى تشكيل الجيش الليبي بواسطة الميليشيات الثورية المتنوعة وقوات حماية النظام وبخاصة “الكتائب الأمنية”.

توسع حروب العصابات والمرتزقة أو الجيوش الموازية
يعتبر انتهاك أي من أطراف النزاعات المسلحة قوانين الحرب “جرائم حرب” تعرض مرتكبيها للمحاكمة الدولية. وبما أن قوانين الحرب تسري على الدول وجيوشها النظامية الرسمية التي تخوض النزاعات العسكرية، تلجأ بعض أطراف النزاعات إلى استخدام عناصر من خارج هياكلها العسكرية النظامية. وتعرف الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، بأن “المرتزق” هو أي شخص يجند خصيصاً، محلياً أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية الرغبة في تحقيق مغنم شخصي. وتكون الأهداف الرئيسة للقوات الموازية أو غير النظامية القيام بمهام خارج الأطر التقليدية للقوات المسلحة النظامية.
وتوسعت هذه الظاهرة مع انتشار الفوضى والحروب والنزاعات في الإقليم وحالات التمرد المسلح والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية وشلل الأنظمة السياسية، والتي فقدت معها الدولة المركزية أهليتها وشرعيتها وقدرتها على التحكم بمفاصل السلطة، مما انعكس عجزاً في قطاعات الدفاع في عديد من الدول العربية. يقول صاحب كتاب “حرب العصابات العرضية” (The Accidental Guerilla)، إصدار عام 2009 ديفيد كلكيولن “إن الحرب الهجينة هي أفضل تعبير وتفسير للنزاعات الحديثة والمعاصرة”، لأنها “تتضمن مزيجاً من الحرب غير النظامية والحرب الأهلية وأعمال التمرد والإرهاب”. ويعرف فرانك هوفمان في كتابه “النزاعات في القرن الحادي والعشرين: صعود الحروب الهجينة”، إصدار 2005، الحرب الهجينة على أنها “المزج ما بين تكتيك حرب العصابات والجماعات الإرهابية وامتلاك قدرات تقليدية وأسلحة تشبه تلك التي كانت حصراً للجيوش النظامية”. وفي هذا السياق يتم “استخدام الأنماط المختلفة من الحرب، بما في ذلك القدرات التقليدية والتكتيكات غير التقليدية والأفعال الإرهابية، إضافة إلى نشر الفوضى التي تساعد على تفشي الجريمة”.

يصف الباحث يزيد صايغ في دراسته “تهجين الأمن: جيوش، وميليشيات، وسيادة مقيدة”، ديسمبر (كانون الأول) 2018، ونشرت عبر “المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية” ISPI))، و”مركز كارنيغي للشرق الأوسط”، هذه الظاهرة بـ”القوات المسلحة الهجينة داخل الدولة الهجينة”. ويشير إلى أنه من النتائج المباشرة لتزايد انخراط خليط من القوات المسلحة النظامية الوطنية أو فلولها وبقاياها والجماعات المسلحة (بما في ذلك الميليشيات التي ترعاها الدولة أو غيرها التي حققت مكانة شبه رسمية)، في العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن، في أنماط معقدة من تجنب الصراعات والتعايش والتعاون المندرجة ضمن سياق أوسع من التنافس المستمر في ما بينها، إضافة إلى التنافس الجيوسياسي بين مروحة من الجهات الداعمة الخارجية، هو تهجين الحوكمة الأمنية في هذه البلدان، مما جعل سيادتها مقيدة بشكل أو بآخر ومتنازعاً عليها باستمرار في آن. على مدى عقود جسد تهجين الهياكل الأمنية استراتيجية متعمدة تلجأ إليها مجموعة الدول العربية هذه، حيث كانت الموازنة بين القوات المسلحة الوطنية من جهة والهياكل العسكرية والأمنية الموازية من جهة أخرى بمثابة وسيلة للحيلولة دون حدوث انقلاب وإدامة النظام السياسي الحاكم. وحصل تهجين الهياكل الأمنية في أواخر القرن العشرين “من أعلى”، أي على يد السلطات الحاكمة، لكن تقهقر قدرات الدولة وتآكل العقد الاجتماعي ومواجهة الهوية الوطنية تحديات جمة أدت إلى بروز ظاهرة عكسية. ففي خضم تفكك الدول وتفاقم الأزمة المالية وجدت النخب السياسية القائمة نفسها عاجزة أمام صعود جهات أمنية غير رسمية وجماعات مسلحة أخرى خارج إطار الدولة، أو هي شجعت عمداً صعودها من أجل تصدير أعباء الأمن إليها. كانت هذه أشبه بعملية تصاعدية من أسفل إلى أعلى، بحيث فقدت القوات المسلحة الوطنية تماسكها الداخلي أو تجزأت تماماً، في حين باتت الجماعات المسلحة على اختلافها جزءاً لا يتجزأ من الترتيبات الأمنية التي تظل بمعظمها غير رسمية، لكنها مع ذلك اكتسبت صفة شبه رسمية بفضل شرعنة الأمر الواقع من قبل السلطات الحاكمة. ومن وجهة نظر الباحث في “مركز كارنيغي” أيضاً، فريدريك ويري، في إطار بحثه والذي جاء بعنوان “ترويض الميليشيات: بناء الحرس الوطني في الدول العربية المتصدعة”، مايو 2015، أنه منذ اندلاع “الربيع العربي” عام 2011، انهارت السلطة العسكرية المركزية في كل من شمال أفريقيا والمشرق العربي واليمن، ولجأ عدد من الدول العربية الضعيفة إلى الميليشيات المحلية لمساعدتها على الدفاع عن أنظمتها. صحيح أن هذه الميليشيات الموالية للحكومات يمكن أن تؤدي أدواراً أمنية مهمة، إلا أنها تتمتع بمقدرة عسكرية وصدقية محدودتين، ذلك أن بعض الميليشيات يرتبط بالأحزاب الحاكمة ويستمد المقاتلين مباشرة من مناصري النظام. في المقابل، تتكون ميليشيات أخرى من فصائل ثورية سابقة أو منشقين من مجموعات إرهابية ومتمردة، وغالباً ما تسعى هذه الميليشيات إلى الإبقاء على استقلاليتها، حتى لو أعلنت الولاء ووضعت نفسها في خدمة الدولة. وغالباً ما تكون الميليشيات أقل كلفة وأكثر ليونة من قوات الأمن النظامية، كما تتمتع بمعرفة محلية أكبر، مما يتيح لها أن تنشط بفعالية في المناطق حيث لا تستطيع قوات الأمن النظامية العمل، لكنها تفتقر إلى المهنية، وقد ترتكب أعمال عنف ضد السكان المدنيين، متيحة للأنظمة تنصلاً مقبولاً وحصانة في وجه التنديد الدولي بانتهاكات حقوق الإنسان. ويؤكد الباحث أنه من الخطر الاعتماد على الميليشيات، فقد ترفض الانصياع إلى الأوامر أو تنقلب على رعاتها الدوليين. وحتى لو كانت الميليشيات وفية فهي غالباً ما تفتقر إلى التدريب والمعدات الضرورية لمواجهة أعداء أقوى، وقد يؤدي انتشارها إلى ضعضعة احتكار الدولة لاستخدام القوة.

البعد السياسي للميليشيات
ويؤدي الصعود السياسي لجيش موازٍ في دولة ما إلى ازدياد اندفاعه لمزيد من الانتشار، على غرار ما يقوم به “حزب الله” الذي عملت قيادته على تشكيل ما يسمى “سرايا المقاومة”، لتكون أداة أخرى للحزب في لبنان. وأيضاً توسعت قوة “حزب الله” السياسية بعد أن انخرط في الحرب السورية لحماية نظام الرئيس السوري بشار الأسد. في دراسة صادرة عن وكالة أبحاث الكونغرس تقول إن إيران “تقدم إلى (حزب الله) ما يقرب من 700 مليون دولار سنوياً مساعدات اقتصادية وعسكرية”، وهذا يفوق المتوسط السنوي لقيمة المساعدات الاقتصادية والعسكرية الذي يبلغ نحو 200 مليون دولار والتي منحتها الولايات المتحدة لحكومة لبنان وللقوات المسلحة اللبنانية منذ عام 2006. ويتوازى مع ذلك مع ما كشف عنه “الحرس الثوري” الإيراني، في 18 أغسطس (آب) 2016، على لسان أحد قادته في سوريا، عن مخطط لإنشاء ما سمي “جيش التحرير الشيعي” تحت إشراف قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني حينها، للقتال في ثلاث جبهات هي سوريا والعراق واليمن، ولا يقتصر الجيش في تجنيده على العناصر الإيرانية، بل يضم ميليشيات تدعمها طهران في الشرق الأوسط مثل “زينبيون” من المقاتلين الباكستانيين، و”حيدريون” من الشيعة العراقيين، و”فاطميون” من المقاتلين الأفغان.
وفي السودان تحولت قوات “الدعم السريع” المشكلة مما كان يعرف بـ”الجنجويد”، والتي كانت تقاتل نيابة عن الحكومة السودانية خلال الحرب في دارفور، بين عشية وضحاها من قوات عسكرية تنتظر الدمج في الجيش السوداني إلى “قوة متمردة”، وفق المتحدث باسم الجيش السوداني العميد نبيل عبدالله. وتحولت العاصمة الخرطوم منذ صباح 15 أبريل (نيسان) إلى ساحة قتال ضارٍ بين أكبر قوتين عسكريتين في البلاد. جاء ذلك بعد أن تحولت قوات “الدعم السريع” والتي أنشئت لتكون ذراعاً للجيش إلى قوة موازية له، وخرجت عن سيطرة القوات المسلحة النظامية. وتملك قوات “الدعم السريع” قوة عسكرية واقتصادية ضاربة، ونجحت في استقطاب عدد كبير من قادة الجيش الذين أحيلوا على التقاعد، وأسست مقار عدة في الخرطوم، كما تملك إدارات ومعسكرات في غالب ولايات السودان، لكن من غير المعروف بنحو دقيق عدد قوات “الدعم السريع” المنتشرة، إذ تتحدث بعض المصادر عن أنها تفوق الـ100 ألف مجند.
أما في اليمن فيقول تقرير لشبكة “بي بي سي”، “لم يتردد علي عبدالله صالح خلال مسيرته السياسية التي ناهزت ثلاثة عقود في التحالف مع ألد أعدائه للحفاظ على حكمه وتعزيز مواقعه، وآخر حلقة في سلسلة تحالفاته كانت مع الحوثيين بعد أن حاربهم مرات عدة أثناء وجوده في السلطة. انهار هذا التحالف، فجاء رد فعل الحوثيين عنيفاً وحاسماً، ليلقى صالح مصرعه على يدهم في الرابع من ديسمبر (كانون الثاني) 2017”.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى